Mohamed Saeed’s review published on Letterboxd:
(( الأشياء ليست كما تبدو ..! ))
- هكذا يرى “چون باكستر“ العالم .. لا شئ في الحياة يبدو كَظاهره ، دائماً يوجد ما نجهله ؛ نسعى وراء المجهول .. حتى يقودنا لمصيرنا المحتوم ؛ لذلك يُخبرنا “چون“ ألا ننظر الآن .. فلتَكنْ نظرتنا مُستقبلية ، و لِتَكنْ ثاقبة !
▪️قصة الفيلم مقتبسة من رواية “داڤني دو مورييه“ التي تحمل الإسم ذاته ، تدور حول الزوجان (چون و لورا باكستر) ، اللذان يعيشان بهدوء و سعادة مع أولادهما ، في مكان ما منعزل بالريف الإنجليزي ..، و في أحد تلك الأيام المُلبدة بالغيوم و التي تغلب عليها الأجواء القابضة .. الأطفال يلعبون بالخارج ، بينما “لورا“ تقرأ ، و “چون“ يعمل .. و آثناء ذلك يستشعر الأخير شيئاً غريباً ، بعد أن إلتقط صورة فورية لأحد أعماله الزجاجية و وجد بها ما أثار دهشته ..، رأي في الصورة إنعكاس لأحدهم يرتدي رداءٌ أحمر مشابه لما ترتديه إبنته بالخارج ....!!
▪️ يستجيب لحدسه و يخرج مهرولاً لتفقد أولاده و الإطمئنان عليهما ؛ و لكن بكل أسف يعجز عن إنقاذ إبنته التي غرقت بالبحيرة المجاورة للمنزل ، و فارقت الحياة بالفعل ..!
🔹 تلك الإفتتاحية القاتمة الخاطفة للأنفاس ، رُبما تخبرنا ما نحن مُقبلين عليه من الجو العام للفيلم .. لكن الشئ الأكيد أن ما هو قادم يتضمن الكثير من الظواهر الميتافيزيقية .. لذلك ، إن كنت تبحث عن تفسيرات منطقية لأحداث الفيلم ، فلا أنصحك أن تُكمل القراءة ، لأن السطور القادمة لا تحوي إجابات .. فقط إثارة التساؤلات ، و المزيد من علامات الإستفهام و التعجب .. ؟!
▪️بعد هذا الحادث الأليم يُلحقا إبنهما بمدرسة داخلية ؛ ثم ينتقلا بشكل مؤقت إلى المدينة الغارقة (ڤينيسيا) ، لعلها تداوي آلام فقدان إبنتهما ..؛ و حتى يستطيع “چون“ أيضاً متابعة عمله في ترميم إحدى الكنائس القوطية الآثرية المُرصعة بقطع الفسيفساء.
▪️و بعد شهور قليلة من الحادث ، نجد “چون“ أكثر تماسكاً و تعايشاً مع فكرة فقدان الإبنة .. رُبما يستعين بعمله لمساعدته على المضي قدماً ؛ بينما “لورا“ غارقة في أحزانها ، تستعين بالأقراص المهدئة لتستطيع مواصلة الحياة .. إلى أن تلتقي صدفة بالأختين (هيذر) و (ويندي) ، اللتان على وشك أن يُحدثا تغير كبير في حياة الزوجين .. إحداهما كفيفة ، "هيذر" ، لا ترى من عالمنا شيئاً ، و لكنها تدّعي إنها وسيطة روحية و تملك حاسة الإستبصار ، و يمكنها أن ترى العالم الآخر ..!
▪️لحظات قليلة قبل أن تثبت أنه ليس مجرد إدعاء ، فهي تُخبر “لورا“ أنها رأت إبنتها “كريستين“ في رؤية من العالم الآخر و هي ترتدي رداء أحمر عاكس للماء و تضحك سعيدة في العالم الآخر .. كما تُخبرها أن حياة زوجها في خطر إن لم يغادر مدينة البندقية في أسرع وقت ممكن !
🔹و عندما تخبر “لورا“ زوجها بذلك ، يعتقد أن كل ذلك هراء ، على الرغم من أنه هو نفسه يملك هِبة من نوع خاص .. هِبة تفوق مستوى إدراكه ، لعله مُبارك أو ملعون !!
و إلا كيف نفسر الرؤى الغريبة التي يراها “چون“ من حوله !
بدايةً من شعوره بمأساة وشيكة ستحدث لإبنته قبل الحادث بدقائق ، و ظهور صاحب الرداء الأحمر في الصورة التي إلتقطها رغم عدم وجوده بالواقع !
هذا الرداء الأحمر الذي ظل يطارد مخيلته بين أزِقة و دهاليز ڤينسيا طوال الوقت إلى أن فتك به !
و مع ذلك فإن “چون“ ظاهراً و باطناً يرفض الإعتراف أنه يملك تلك الحاسة .. فلا نعرف إن كان يجهلها أو ينكرها ..!
▪️إنزعج “چون“ من الأختين ، و لكنه قرر أن يتساهل قليلاً لأنه وجد “لورا“ سعيدة بالحديث عن “كريستين “ ، و مع ضغطها عليه ، و تَذكِرته بأنه يتحمل جزء من المسئولية عن الحادث لأنه سمح للأطفال باللعب جانب البحيرة .. خلق ذلك إحساس بالذنب داخله جعله يتساهل أكثر ليسمح لها بزيارة الأختين في الفندق المقيمين به ، بينما ينتظرها هو في البار المقابل .. تلك الزيارة التي إستهدفت التواصل مع العالم الآخر ، و إشباع حاجة “لورا“ لسماع المزيد عن إبنتها !
▪️بعد عودتهما إلى الفندق يحدث بينهما شِجار ، ينتهي بتعنيف “چون“ ل “لورا“ ، و محاولة إعادتها لأرض الواقع ، فضلاً عن العالم الخيالي الذي يرضي مشاعرها تجاه إبنتها !
ينقضي الشجار بالإتفاق على قضاء أسبوعين أجازة بعيداً عن ڤينيسيا لإراحة أعصابهما و التخلص من الضغوطات النفسية .. و لكن القدر كان له رأيٌ آخر ؛ حيث يتعرض إبنهما لحادث غريب في مدرسته ، فتسارع “لورا“ بالعودة إلى إنجلترا للإطمئنان عليه ، - دون أي توضيح إن كانت بالفعل إستقلت الطائرة أم لا- !
▪️يعود “چون“ إلى عمله بالكنيسة ، و يتعرض هو أيضاً لحادث سقوط كاد أن يُوّدي بحياته ، و بعد أن نجا من الموت بصعوبة .. يخرج ليستنشق بعض الهواء النقي ، و يتحدث قليلاً مع الأسقف حيث يسترجع معه حديث زوجته “لورا“ عن الخطر الذي يلحقه بڤينسيا ، الذي إستنكره في البداية ، و لكن الآن .. يجب أن يأخذ الأمر على محمل من الجدية !
▪️يقرر “چون“ أن يأخذ تلك الأجازة ليريح أعصابه ..، و آثناء إتجاهه للمطار للحاق بزوجته ، يراها بالفعل في رداء أسود تستقل قارب في الإتجاه المعاكس بصُحبة الأختين ..!
يحاول النداء عليها لكنها لا تستجيب ، و كأنها لا تراه ولا تسمعه !!
🔸لنتوقف هنا و نتسائل فقط ؛ كيف حدث هذا ؟؟ هل إنتقل “چون“ في تلك اللحظة إلى العالم الآخر .. عالم الأموات !
ماذا لو أن “چون“ لاقى حتفه بالفعل في حادث الكنيسة !
فمن بعد هذا الحادث لم يلتقي زوجته وجهاً لوجه مرة أخرى ، و لم تستطع رؤيته أو سماعه رغم أن بينهما أمتار قليلة !
- ما يُدعم تلك الفكرة - رغم أن عقلي مازال يستنكرها بعد المشاهدة الثانية للفيلم- ، أن مشهد زوجته السابق بصُحبة الأختين في القارب هو بالفعل مشهد جنازته في نهاية الفيلم !!
- و أيضاً عند خروجه من الكنيسة و آثناء سيره مع الأسقف نجد في الخلفية مُلصق دعائي لفيلم “شابلن“ بعنوان (واحد ضد الكل) -باللون الأحمر-* ؛ أنا الميت و هُم الأحياء !!
- نحن نعرف مُسبقاً أنه يملك هِبة من نوعاً ما ، ليس لها شكل محدد ! حاسة إستبصار .. أو ربما لديه ما يشبه ظاهرة (الديچاڤو) التي تربط الماضي بالحاضر ، و لكن بشكل مختلف يربط الحاضر بالمستقبل !
هل هي فجوة زمنية بين الحاضر و المستقبل ، تجعل الأحداث تسير بالتوازي مع أسبقية الموهوب ؟؟ ، حيث يستطيع من خلالها رؤية أحداث مستقبلية دون إمكانية التدخل لتحويل مسارها ؟؟
.
.
🔹على أي حال ، المشاهد القادمة و الثلث الأخير من الفيلم هو الأكثر غرابة ..!
▪️ يعود “چون“ للبحث عن زوجته في الفندق الخاص بالأختين و لكنه يعجز عن تذكر مكانه بالتحديد ، زاد قلقه و ثارت ريبته ، و هو ما دفعه للذهاب إلى مركز الشرطة لتقديم بلاغ بإختفاء زوجته “لورا“ ..!
يُقابل هناك مفتش الشرطة ، و يخبره بتفاصيل إختفاء زوجته و مدى قلقه عليها ، خاصةً في ظل وجود قاتل متسلسل حر في المدينة تُنتشل ضحاياه من مياه المدينة المتعرجة ، و تنكشف جرائمه بشكل يومي تقريباً ، و هو في الأساس ما قد وضع “چون“ نفسه محل شك بالنسبة للمفتش من بداية حدوث هذه الجرائم..،
لذلك بعد إنتهاء لقائهما ، أرسل المفتش مساعده لمراقبة و تعقب “چون“ !
▪️آثناء سير “چون“ بطرقات و دهاليز ڤينيس -التي تحولت في هذا الفيلم فقط من أجمل مدن العالم إلى أكثرهم رُعباً- ، يجد دُمية غارقة ! يلتقطها كما إلتقط إبنته الغارقة من البحيرة ؛ تستوقفه كما تستوقفنا للحظات ، ثم يتركها و يذهب ليبحث عن أي دليل يقوده إلى زوجته أو إلى الأختين .. و بطريقة ما يستطيع بالفعل الإستدلال على الفندق !
و لكنه يُفاجأ بعدم وجودهما و أنهما أخلوا الغرفة ، بل و تعجز صاحبة الفندق عن التواصل معه (لغوياً) كما يبدو !
▪️يذهب “چون“ لمقابلة الأسقف ، و عقله ملئ بالتساؤلات .. و آثناء إنتظاره يقوم بمهاتفة مدرسة إبنه للإطمئنان عليه بعد الحادث ؛ فيُفاجأ أن زوجته هناك بالفعل .....!
🔸إذن ، هل تلك الأحداث السابقة تعصف بمعظم الإفتراضات السابقة ؟؟
تلك الأحداث كافية لتنفي فكرة موته أو عبوره للعالم الآخر ، و لكنها لا تنفي أبداً أن موهبته هذه لعنة تطارده و تُحصي أنفاسه ..!
▪️ يعود “چون“ لمركز الشرطة ليُخرج "هيذر" بعد أن تمكنت الشرطة من إعتقالهما وحيدة -رغم إنها كفيفة و لا تتحرك مُطلقاً بدون "ويندي" - ، و بعد إيصالها للفندق ، يخرج ليلقي زوجته ....،
▪️ليلاً .. سيراً في تلك الأزقة المُظلمة ذات الطابع القوطي المُرعب ، و ضوء القمر يعكس على الجدران عالم من الظلال المخيف .. يعترض طريقه صاحب الرداء الأحمر ، الذي يدفع “چون“ لملاحقته لمعرفة هويته ..، و ربما يستجيب “چون“ لنداء دائم بداخله يُلح عليه للكشف عن لعنته .. تلك التي أودت بحياته بالفعل !
.
.
🎞️ الفيلم قطعة فنية من إخراج البريطاني "نيكولاس روج" صاحب التحفة التي سبقت هذا الفيلم بعامين ، Walkabout الذي لاقى نجاحاً كبيراً ، لا يختلف كثيراً عن النجاح الذي حققه Don't look now .. رغم ذلك ، المكانة الفنية التي يحتلها الأخير جعلته من أفضل عشرة أفلام بريطانية على الإطلاق ، و يعتبر من الأعمال الكلاسيكية المؤثرة و المُلهمة لأفلام الرعب النفسي.
🎭 ناهيك عن النجاح و الثناء النقدي و الجماهيري الكبير الذي حققه الثُنائي "دونالد سازرلاند" و "چولي كريستي" ، حيث صُنف دور “لورا“ أنه الأفضل في مسيرة الجميلة "چولي كريستي"
📽️ "روج" برع في جعل الحزن على فُقدان الإبنة هو المحور الذي يتحكم في سير الأحداث من منظور غامض و مثير ، هذا بالإضافة إلى لمساته الفنية الرائعة التي تجلّت في عدة ثيمات تعبيرية و ملامح سينمائية مُتفردة :
🔹بداية من المشهد الحميمي الشهير .. فقد قرأت عشرات المقالات النقدية عن الفيلم لم يخلو أياً منها للتعرض لهذا المشهد بين الزوجان ، و لا يُلام أحدهم .. هذا المشهد بالفعل هو أحد أفضل المشاهد (العاطفية و ليست الجنسية) التي تم تصويرها على الإطلاق ، رغم أن رواية "دو مورييه" لا تتضمن المشهد ، إلا أن المخرج "نيكولاس روج" قرر إضافة المشهد قبل بداية التصوير مباشرةً لما شعر به من فتور في علاقة الزوجان و الحزن المسيطر عليهما ، الذي أدى لتباعد أرواحهما .. و إحتاج لشئ ما ليكسر هذا الحاجز لدى المتلقي ، و يخبره أن الزوجان مازالا يحبان بعضهما البعض .
- تم تصوير و مونتاچ المشهد بطريقة لا مثيل لها ، و لم أراها من قبل - في إطار مشاهداتي- ، حيث إستخدم "روج " أسلوب المونتاچ المتقاطع بدمج مشهد ممارسة الحب مع مشهد إستعدادهما للخروج لتناول العشاء بعد الإنتهاء .. و تلك التقنية لم تقتصر على هذا المشهد فقط ، بل تم تكرارها عِدة مرات خلقت و عززت هذا الإحساس بالتوازي بين الأحداث التي لا ترتبط عادةً ، و الذي تحدثنا عنه مُسبقاً .. رأيناها في المشهد الإفتتاحي ، و قبل الختامي و غيرهم .. في البداية كان الأمر مُزعج و سارعت بإنتقاد القطع السريع الحاد ، و لكن بعد روعة المشهد العاطفي و وصولاً لنقطة النهاية .. يُمكننا القول بكل أريحية أن عنصر المونتاچ هو أحد أسباب قوة العمل و تفرده .
- و بالتعرض للثيمات المتكررة نجد ثلاثة أشياء رئيسية .. (اللون الأحمر ، الماء ، الزجاج المكسور) حيث يتم الحفاظ على الإرتباط البصري المستمر بينهم و بين الموت .. عِدة أمثلة توثق ذلك ، تتضح رُبما في المشاهدة الثانية أو الثالثة .. فهذا الفيلم تجربة مُعقدة ، و لم يُصنع كي تتم مشاهدته لمرة واحدة ؛ لكن حقاً المُلاحظة التي إسترعت إنتباهي و حازت إهتمامي و إعجابي .. أن جميع مشاهد الفيلم (حرفياً) تتضمن اللون الأحمر دون إستثناء 🔴..!
.
.
.
Don't Look Now (1973)
Dir. Nicholas Roeg